• 5/04/1443 - 11:47
  • 8
  • وقت القراءة : 4 دقيقة

جورج جرداق شاعر الإنسانية

مقال للمستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان د. عباس خامه يار في جريدة الأخبار

جورج جرداق
عباس خامه يار

مرّت سنوات عدّة، وغالباً ما یُنسى الراحلون کما لو أنّهم لم یکونوا بیننا یوماً. هی صیغة الحیاة وصیرورتها التی تقتضی تخطّی الأمس، لاستقبال الغد. لکنّ الإنسان یقارعُ حلقة الفناء التی تلفّه فی النهایة، من خلال باکورة عطاءاتٍ وآثارٍ یترکها فی نفوس اللاحقین. فلا یُنسى، ولا ترحل ذكراه.

جورج جرداق (۱۹۳۳ - ۲۰۱۴)، استحقّ منا کل تقدیر فی حیاته، ویستحقّ الیوم أکثر، لما ترکه من إرث أدبیّ تاریخیّ یزخر بالعشق والمحبة والإخلاص. فهو کان الباحث عن الإنسانیة خارج حدود الدین والمذهب والطائفة. لقد عثر جورج على الإنسانیة فی قلبِ علیّ بن أبی طالب (ع). ومکثَ هناک یحاول صیاغةَ خلجاته وأحاسیسه على شکل قصیدةٍ ونصٍّ أدبي.

هو جورج جرداق الأدیب اللبنانی المسیحی، الکاتب، الشاعر، الکاتب المسرحی، والمبدع المعروف الذی قضى فی بیروت فی غروب عاشوراء عام ۲۰۱۴ عن عمرٍ یناهز ۸۳ عاماً.

عرفه الإیرانیون وشیعة العالم قاطبةً ومسلموه ومسیحیوه. لقد استحقّ عن حقّ لقب « عاشق الإمام علي» . کان لکتابه الذی ألّفه فی ۵ أجزاء « الإمام علی صوت العدالة الإنسانية» ، أثره العلمی والأدبی الخالد. وقد طُبع منذ أکثر من نصف قرن، وبیع منه حتى الیوم أکثر من ملیونی طبعة فی سائر أنحاء العالم.

« علی وحقوق الإنسان» ، « بین علیّ والثورة الفرنسية» ، « علیّ وسقراط» ، « علی وزمانه» ، « علی والقومیة العربية» ، وأخیراً ملحق هذه المجموعة باسم « روائع نهج البلاغة» ، هی عناوین المجلدات الخمسة لهذا الکتاب الممیز والفرید للمبدع الموالی لشخصیة مولى الموحّدین وسید المتقین علی بن أبی طالب؛ هذه الشخصیة الفوق-إنسانیة المتعالية.

في منتصف تسعینیات القرن الماضی، وضمن مهمتی الثقافیة فی لبنان، کانت لی معه زیاراتٌ وفعالیات. کان الکتاب ومکتبته الشخصیة یشغلان الحیّز الأکبر من تفکیره. کان یعیش وحیداً، وکان الکتاب أنیسه الوحید ورفیقه الذی یحتل کل أرکان البیت والمکتب وحیاته کلها، إذ کان من الصعب إیجاد مکانٍ للجلوس فی غرفته. لذا، فإنّ على الزائر أن یزیح الکتب من هنا وهناک لیفسح مجالاً، ولو ضیقاً، للجلوس فی صحبة هذا المفکر الكبير.

في منتصف التسعینیات، ارتضى أخیراً السفر إلى إیران لکی یلتقی الإیرانیین الذین کانوا یعرفونه منذ سنواتٍ طویلة، إلا أنه وافق على هذه الدعوة على مضض، إذ إنه حتى ذلک الحین، لم یکن قد سافر بالطائرة أبداً، وکانت لدیه مخاوف من السفر بهذه الوسیلة الجوية.

لهذا السبب، فقد فضّل اقتراحنا الآخر بالسفر عبر البر. وهکذا دخل البلاد بعد طیّ مسافةٍ طویلةٍ من لبنان إلى إیران، وبعد عبور مدنٍ مختلفة، من بیروت وحلب وعدة مدنٍ ترکیة، لیتمکن أخیراً من أن یکون حاضراً بین محبیه فی مدینة قم الإيرانية.

لقد کان لتلک الرحلة أثرٌ عاطفی کبیر فی نفسه، وکان مذهولاً أمام هذا العدد من المحبّین. وبعد أیامٍ من اللقاءات والحوارات مع علمائنا ومفکرینا، عاد إلى بلاده، قاطعاً تلک المسافة الطویلة نفسها بکلّ ما فیها من المخاطرة، حاملاً معه خواطر جمیلةً لا توصف، إلا أن ضیفنا واجه مشکلةً من نوعٍ آخر کذلک فی هذه الرحلة، فهو لم یُقبل على تذوق وجبتنا المفضّلة، نحن الإیرانیّین، أعنی « شلو کباب» أبداً!

لقد کان نباتیاً، ولطالما طرح هذا السؤال على الآخرین قائلاً: « ما ذنب الحیوانات لتکون لنا نحن الناس قرباناً وأضحیة؟ » (طبعاً لم یکن قد شهد بعد فی ذلک الحین ظاهرة ذبح البشر المریعة). لقد کانت رؤیته هذه نتیجة إحساسه اللطیف وعاطفته الإنسانية.

مرةً أخرى، شاءت الأقدار أن یزور إیران، ملبیاً دعوة السید البابطین، الأدیب الکویتی ورئیس « مؤسسة البابطین للإبداعات الأدبية» ، بقصد المشارکة فی « مؤتمر شعر سعدی الشیرازی الدولي» الکبیر. وهناک، کان جرداق نجم الاحتفال. وقد نلت شرف لقائه ومرافقته فی طهران وشیراز. کانت المرة الأولى التی یزور فیها مرقد الشاعرین العملاقین الشیخ الأجلّ سعدی ولسان الغیب حافظ الشیرازی، إذ وقف مبهوراً أمام حضرتيهما.

لم تنفکّ مکتبته الخاصة تشغل تفکیره وحدیثه طوال الطریق، حتى إننی سمعت أنّها بقیت همّه الأکبر حتى آخر لحظات حیاته! قبل وفاته بشهرٍ واحد، أعلنت « مؤسسة البابطین للإبداعات الأدبية» عن فوزه بجائزة الخلق والإبداع فی الشعر والأدب، قیمتها ۵۰ ألف دولار، لکن الأطباء کانوا قد منعوه من السفر.

أن یصبح کاتبٌ وشاعرٌ وفنانٌ مسیحیٌ عاشقاً للإمام علی بهذه الطریقة، فذلک یذکّرنا قبل أیّ شیءٍ بحقیقةٍ ساطعة؛ أنّ علیاً بجاذبیته المتفردة هو مظهر وحدة الأدیان ومحورها.

وكما یقول جرداق:

« یا أیّها العالم، ماذا سیحدث لو جمعت کلّ قواک وقدراتک، وأعطیت الناس فی کلّ زمان علیّاً بعقله وقلبه ولسانه وذی الفقاره؟! »

أجل! إن حبّ علی هو حبٌّ للخیر کله. . وللجمال کله! فکیف لا یقعُ بحبّه باحثٌ عن نور الإنسانیة فی ظلمات الزمان!

سلامٌ على روحِ جورج جرداق…

مدیر سایت

مدیر سایت

أکتب تعلیقک.

أدخل النص الخاص بك واضغط على Enter

تغيير حجم الخط:

تغيير المسافة بين الكلمات:

تغيير ارتفاع الخط:

تغيير نوع الماوس: