الخزف الايرانيّ القديم.. بين الفنّ والأسطورة
ساعدت الرسوم والنّقوش التي تحتفظ بها الأواني الفخاريّة والقطع الخزفية، في التعرّف على معالم الثقافة الإيرانيّة القديمة وطبيعة المفاهيم والمعتقدات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك، إذ إن معظم هذه الرّسوم والنقوش مفعمةٌ بالمفاهيم والرؤى. ولكي نعي هذه المفاهيم والرؤى، لا بدّ من الإحاطة برموز الرسوم وتعابير النّقوش التي ظهرت في الآثار الفنّية والتاريخية المتوافرة.

ساعدت الرسوم والنّقوش التي تحتفظ بها الأواني الفخاريّة والقطع الخزفية، في التعرّف على معالم الثقافة الإيرانيّة القديمة وطبيعة المفاهيم والمعتقدات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك، إذ إن معظم هذه الرّسوم والنقوش مفعمةٌ بالمفاهيم والرؤى. ولكي نعي هذه المفاهيم والرؤى، لا بدّ من الإحاطة برموز الرسوم وتعابير النّقوش التي ظهرت في الآثار الفنّية والتاريخية المتوافرة. إذ لا يخفى أنّ الأشكال والتصاوير، التي تمّت الاستفادة منها في الآثار الفنّية والتاريخيّة الإيرانيّة، ارتكزت في الأعمّ الأغلب إلى الصراعه الدّائم في معترك الحياة التي كانت متداولة بين النّاس. وممّا هو مُلاحظٌ أنّ الثّقافة الإيرانيّة القديمة ارتبطت، في الكثير من أبعادها، بالخيال والقصص والاساطير، التي كانت كلّ واحدةٍ منها تعبيراً عن حاجةٍ خاصّةٍ، وانعكاساً لتطلّعاتٍ ملحّةٍ وهادفةٍ. ومن هذه الناحية ارتبطت الأساطير والخرافات، باعتبارها مظهراً من مظاهر الثقافة، ارتباطاً مباشراً بالإبداع الفنّي القوميّ؛ إذ كانت الأسطورة وسيلة التّعبير الأولى عن نظرة الإنسان إلى العالم، وقد اقترنت بالرّمز دائماً. ولعلّنا لا نُجانب الحقيقة إذا قلنا إنّ الأسطورة والفنّ هما وجهان لعملة واحدة، وإنّهما يشتركان في الغاية والهدف.
يُعدّ الخزف أحد أقدم الفنون الإيرانيّة، وتُرجع الأبحاث التاريخيّة ودراسة الآثار التاريخيّة، التي تمّ العثور عليها في إيران، تاريخ صناعة الخزف إلى حوالى عشرة آلاف سنةٍ مضت. في البداية كان الخزّاف يصنع أوانيه بيديه المعجونة بالفنّ، ويُظهرها بمظهرٍ جذّابٍ، يدلّ على فنّه وإبداعه. ثمّ فكّر في صنع عجلته التي أخذت على عاتقها في القرن الرابع قبل الميلاد دوراً مهمّاً في صنع الخزف. وقد أوجد هذا الاكتشاف تحوّلاً كبيراً في سعة انتشاره وحجم انتاجه، فضلاً عن دقّته وجماليّته.
كان الخزف في البداية يحمل نقوشاً هندسيّة وتزيينيّة. ثم أصبحت في ما بعد أشكال الحيوانات هي الطاغية. وبعد فترةٍ راح الفنّانون يبتكرون مواضيع أخرى استلهاماً من معتقداتهم، وأحياناً من الظّواهر المحيطة بهم. وفي هذا المجال عبّروا عن معظم مظاهر الحياة في أبعادها الدّينية والأخلاقية والفنية، في رسومهم على الفخّار والخزف. وإنّ هذه النّقلة تُشاهد بوضوحٍ في الحضارات الإيرانيّة القديمة.
وممّا تُفيده الاكتشافات التي حصلت في هضبة «سيلك» في مدينة «كاشان»، وتلال «حصار» في «دامغان»، وتلال «كيان» في «نهاوند» و«شوش» وبقيّة المناطق التاريخيّة، أنّ سكّان هذه المناطق كانوا قد اهتمّوا بصناعة الأواني الفخّاريّة والخزفيّة المنقوشة منذ الألف الخامس قبل الميلاد، وأنّ الأشكال والرّسوم التي وجدت على سطوح الأواني، والتي عكست تصوّراتهم ومعتقداتهم الدينية والثقافيّة، دون أدنى شكّ، تجلّت بإبداعٍ وجماليّةٍ، ربّما ليس لها نظيرٌ في بقيّة الحضارات. وقد عزّز ذلك الانطباع القائل بأنّ «إيران» كانت الموطن الأصلي للأواني المنقوشة، التي كانت تُرى أحياناً باللون الأحمر، وأخرى باللون الحمصي والرّمادي. ومن بين هذه الأواني، يُمكن العثور على قطعٍ خزفيّةٍ تحمل صور الحيوانات والطيور؛ ويبدو أنّ هذا النّوع من الخزف صُنع لأهدافٍ تزيينيّة، وكثيراً ما كان يُستفاد منه في المعابد. في البداية، كان الخزّاف الإيرانيّ القديم يستخدم الخطوط الهندسيّة في رسومه على الأواني، ثمّ حلّ محلّها، بعد ذلك بالتدريج، تقليده للطبيعة فبدأ يوجد تحويراً في تصوير الطبيعة ومخلوقاتها. كان الخزّاف يُصوّر الأشياء والحيوان والإنسان اعتماداً على مشاهداته. فعلى سبيل المثال رسم الخطوط المتموّجة المتوازية، ووضعها داخل دائرةٍ أو مستطيلٍ تعبيراً عن كميّةٍ من الماء. كما استخدم المثلّث للتّعبير عن الجبل. كذلك من المحتمل أنّه حاول تصوير الأرض المزروعة، برسمه لخطوطٍ أفقيّةٍ وعموديّةٍ، داخل مربع.
الحيوانات التي وجدت صورها على الأواني الخزفيّة، كانت عبارة عن العنز الجبليّ والوعل والطيور. ولكن خلافاً لرسوم الكهوف، لم يكن الشّكل الواقعيّ للحيوان محلّ اهتمامٍ بقدر ما كان التّعبير الرمزيّ له، لأن تزيين قطعة الفخّار يكتسب أهمّية خاصّة في عمل الخزّاف، إذ كان يتلاعب بالشّكل الطبيعيّ، حسب رغبته، ويحوّره إلى شكلٍ تجريديٍّ، لكي يتمكّن من تحقيق رغبته التزيينيّة. وكثيراً ما شوهدت رسومٌ لأعضاء من بدن الحيوان على الأواني الخزفيّة، وهو بذلك يعكس صورة الواقع، حسب رغبته وإحساسه.
كان صنّاع الفخّار الإيرانيّ القديم، خاصّة في «سيلك» الكاشانيّة، ينظرون إلى الحيوانات ذوات القرون نظرةً مقدّسة، ويُكنّون لها الاحترام الفائق. وعلى العموم كانت رسوم قرون الحيوانات محلّ احترامٍ وتقديرٍ لدى مختلف الشعوب. وكانت توجد علاقةٌ بين قرون الحيوانات وأفكار النّاس. وقد تحوّل ذلك بالتدريج إلى ارتباطٍ وثيقٍ، بين الإنسان والعالم العلويّ. ولهذا عندما كان الإنسان يُريد تصوير بطولة شخصيّةٍ ما، فإنّه كان يُعبّر عن ذلك برسم القرون.
بصورةٍ عامّةٍ، نجد في الرّسوم الإيرانيّة القديمة، سواء تلك المنحوتة على الصخور أو الموجودة على سطوح الأواني أو النّقوش النسيجيّة، خطّاً وهميّاً يدلّنا من جهةٍ على ارتباطها بالاحتياجات العاطفيّة لإنسان هذه المناطق، ومن جهةٍ أخرى على ارتباطها بمستلزمات الحياة اليوميّة الضروريّة.
كان الخزّاف الإيرانيّ القديم يشعر بالمتعة من علمه، وكان يُشبع حسّه الفنّي ويُرضيه من خلال الأشكال والصور التي يرسمها على سطوح الأواني. ويبدو أنّ الفنان لم يكن يستخدم في حياته اليوميّه قدحاً أو إناءً، ما لم يحمل رسوم الحيوان الذي يقدّسه أو النّبات الذي يهتمّ به. وهذا يعني أنّ الفنّ بالنسبة له كان وسيلةً للتّعبير عمّا كان يدور في مخيّلته، وما يكمُن في صدره.
بذلك يتّخذ الفنّ الإيرانيّ القديم شكلاً له، ويجسّد الفنّان المجهول أفكاره الفنّية. فالفنّ يبدأ عندما يفكّر الإنسان بالزّينة والتّزيين، وربّما كانت المرحلة الأولى التي حاول الإنسان أن يُجسّد فيها إحساسه هذا، هي مرحلة صناعة الخزف، والرّسوم المتنّوعة التي احتفظت بها. وقد امتاز الخزّاف في إبداعه الفنّي هذا، بأنّه لم يترك موضعاً في الإناء الخزفي دون رسوم. فكان يُزيّن كلّ موضعٍ من سطوح الأواني الخزفيّة بالرّسوم. وغالباً ما كانت هذه الرسوم تعكس مخاوفه وآماله وارتباطه بقوى الطبيعة، في صراعه الدّائم في معترك الحياة.
أکتب تعلیقک.