الشهيد مصطفى شمران؛ "حمزة العصر"
تشكل الكتابة عن شخصية عظيمة تركت أثراً واضحاً وبصمة مضيئة في صفحات الخلود ووجدان التاريخ ـ تشكل الكتابة ـ حالة تهيب مما سيخط القلم وتحبر الكلمات والأحرف. والخشية، كل الخشية، من عدم الاستطاعة عن إيفاء حق أو تبيان حقيقة، على الرغم من البحث والتمحيص، وأيضاً الذهاب بعيداً في الإنشائيات والوصف الذي بدوره قد لا يلبي الغاية.
مقال للدكتور طلال حاطوم؛ عضو المكتب السياسي لحركة أمل
ضاقت به المساحات والساحات بحثاً عن خدمة يقدمها إلى الفقراء.. أو يد مساعدة يمدها إلى المحرومين.. أو وقفة تحت راية الحق للدفاع عن مظلوم.
تشكل الكتابة عن شخصية عظيمة تركت أثراً واضحاً وبصمة مضيئة في صفحات الخلود ووجدان التاريخ ـ تشكل الكتابة ـ حالة تهيب مما سيخط القلم وتحبر الكلمات والأحرف. والخشية، كل الخشية، من عدم الاستطاعة عن إيفاء حق أو تبيان حقيقة، على الرغم من البحث والتمحيص، وأيضاً الذهاب بعيداً في الإنشائيات والوصف الذي بدوره قد لا يلبي الغاية.
بداية لا بد من القول أنها ليست مهمة سهلة الإضاءة على عناوين مفصلية في تاريخ لبنان والمنطقة، لعب فيها رجال عظام دوراً أساساً في قولبة اللحظة في معاجن البطولة والشهادة والفداء حولتها من حالة السكون والخنوع والخضوع إلى ينابيع ثورة متفجرة في وجه الطغيان والظلم والاحتلال، وأعادت تكوين المجتمع على مفاهيم المقاومة بكل أشكالها ومعانيها لبناء ثقافة مؤسسة على الفهم الحقيقي لمعنى الحرية الإنسانية من أي قيد غير العبادة والعمل في سبيل الله والإنسان والوطن.
الشهيد الدكتور مصطفى شمران واحد من أؤلئك الذين ضاقت بهم المساحات والساحات بحثاً عن خدمة يقدمها إلى الفقراء، أو يد مساعدة يمدها إلى المحرومين، أو وقفة تحت راية الحق للدفاع عن مظلوم، هو من الذين كان دأبهم وعملهم نحو الله أولاً وآخراً.
والحديث عن الشهيد شمران ليس ترفاً فكرياً، ولا يمكن أن يكون كذلك، لأنه حديث عن شخصية عظيمة جاءت من أقصى المدينة، واتبعت درب الجلجلة والجهاد، وسلكت درب الحق الموحشة لقلة السالكين، في قلب الشهيد شمران صرخات المحرومين، في نظراته دموع اليتامى، في تواضعه قدوة ومثل العالم المتمكن العارف الزاهد، وفي فكره وقلبه إمام سيد من تلك الشجرة الطيبة المباركة هو الإمام القائد السيد موسى الصدر (أعاده المولى)، في وجدانه وجهاده عنوان أساس هو أن يكون عوناً للمحرومين والمعذبين من خلال حركة أفضل للإنسان هي حركة أمل.
ولد الشهيد القائد مصطفى شمران عام (1932م) في مدينة قم، ثم ما لبثت عائلته أن انتقلت إلى طهران للعيش فيها بعد عام واحد من مولده. وكان الشهيد القائد طفلاً محباً للعزلة غارقاً في التأمل والتفكر متجنباً للصخب والضجيج ومستغرقاً في مشاهدة جمال وجلال الطبيعة والوجود الإلهي. كما كان معجباً بالسماء وعاشقاً للنجوم المتلألئة. وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة (انتصارية) بالقرب من (پامنار) فإنه انتقل إلى ثانوية دار الفنون، ثم قضى العامين الأخيرين في ثانوية (البرز) دون مصاريف دراسية، وكان تلميذاً ممتازاً على طوال هذه المرحلة.
التحق الشهيد القائد مصطفى شمران بالكلية الفنية في جامعة طهران، وبدأ دراسته في قسم الهندسة الكهربائية، ولمّا كانت تلك الفترة متزامنة مع مرحلة الانقلاب في إيران فإنه اضطلع بالنشاط الواسع في النضال السياسي الشعبي والتظاهرات الخطيرة المناوئة للنظام الشاهي الملكي البائد. وحيثما كان الألم والعناء والعمل والمسؤولية والمشاكل والمخاطر، كان الشهيد القائد حاضراً؛ فكان وسط التظاهرات العارمة في مواجهة حملات القمع العنفي بالرصاص والدبابات، وفي خضم المسؤوليات الكبرى، وكان دائماً ما يعرض نفسه للخطر من أجل إنقاذ حياة زملائه. لم يكن يشارك في مراسم الأفراح والمسرات، وكانت سعادته الكبرى في إسعاد الآخرين وتحمل آلامهم، لدرجة أنه كان يشعر بالضيق والقلق عندما تستدعيه الضرورة لحضور أحد الأفراح، لأنه كان دائم التفكير في شقاء البؤساء والمحرومين من مثل هذه المتع والمباهج.
وعلى الرغم من انخراطه الكامل في الاحداث ومشاركته الفعالة في ميادين الصراع السياسي والاجتماعي إلاّ أنه تخرج من الجامعة بدرجة ممتاز، وكان الأول على دفعته، حتى إن أساتذة وطلاب تلك الكلية ظلوا يتناقلون اسمه على ألسنتهم عدة سنوات.
وأنهى دراسته الجامعية في فرع الالكتروميكانيك بكلية الهندسة، وبعد سنة أصبح مهندساً في الكلية نفسها، سافر إلى أميركا عام 1958 لمواصلة دراسته، فحصل على شهادة الدكتوراه في الالكترونيك وفيزياء البلازما.
كما كان يتميز بالرقة والاحساس المفرط، ويتألم من صميم قلبه لآلام المحرومين ويشاركهم همومهم بعواطفه المستفيضة. ولقد كتب هو في مذكراته مصوراً تلك الفترة من حياته، فقال:
عندما كنت عائداً تحت جنح الليل المظلم، شاهدت شخصاً فقيراً يرتجف من البرد القارس وسط ثلوج الشتاء، غير أنه لم يكن بإمكاني أن أعد له مكاناً دافئاً، فقررت أن أقضي تلك الليلة مثله أرتعش من البرد بعيداً عن المأوى، وقد فعلت؛ فقطعت الليل حتى الصباح وأنا أرتجف من شدة البرودة لدرجة أنني أصبت بالمرض الشديد، وما أجمله من مرض.
وقف الشهيد شمران في الصف المعارض لنظام الشاه منذ الخامسة عشرة من عمره، مستفيداً من وجود مفكرين كبار أمثال: الشهيد مطهري، والمرحوم آية الله طالقاني، فكان يستلهم فكرهم، ويقوّم به أفكاره، لينهض بدور فاعل في النشاطات الطلابية. وبادر إلى تشكيل الاتحاد الإسلامي للطلبة في جامعة طهران، كذلك واصل نشاطاته الجهادية في أميركا، وأقدم هو ومجموعة من رفاقه على تأسيس أول جمعية طلابية إسلامية في أميركا، فقطع عنه نظام الشاه منحته الدراسية التي كان أخذها لتفوقه الدراسي، ومع انطلاق ثورة 4 حزيران عام 1963م بدأ الشهيد شمران فصلاً جديداً في نضاله، إذ توجه إلى مصر ليقضي سنتين في دورة مكثفة لتعليم فنون حرب العصابات والحروب غير النظامية، وحصل فيها على المرتبة الأولى بين المتدربين، وأخذ على عاتقه فور انتهاء الدورة مسؤولية تعليم المجاهدين الإيرانيين هناك.
ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، عاد إلى وطنه بعد ثلاث وعشرين سنة من الابتعاد عنه، ووضع كل تجاربه وخبراته وقدراته تحت تصرف الثورة، وتقلد فيها مناصب عدة. وحاز على ثقة الإمام الخميني (قده)، فكان ثقته ويده التي تقبض على زناد الثورة الفتية. حتى أن الإمام الخميني (قده) لقبه بـ "حمزة العصر"، ولدى تشكيل مجلس الدفاع الأعلى في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد انتصار الثورة، عينه الإمام الخميني (رض) ممثلاً ومستشاراً له في هذا المجلس. وهذا هو نص قرار التعيين:
"بسم الله الرحمن الرحيم
سيادة الأستاذ الدكتور مصطفى شمران أيده الله تعالى؛ تشكيلاً لمجلس الدفاع القومي الأعلى استناداً إلى المادة العاشرة بعد المائة من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، فقد تقرر تعيين سيادتكم مشاوراً لي في هذا المجلس. ونظراً لما نمرّ به من ظروف استثنائية فإن على سيادتكم القيام بالمتابعة التامة والدقيقة لكافة الأحداث الداخلية المتعلقة بدوائر الجيش المختلفة وإرسالها إلي كل أسبوع".
وتولى وزارة الدفاع، لبعض الوقت في حكومة الجمهورية الإسلامية، وفي الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي انتخبه سكان طهران ممثلاً لهم في المجلس. وبدأ الشهيد شمران فصلاً جديداً من حياته معتمداً التضحية والإيثار، فأسس قوات الحروب غير النظامية وخاض بها معارك طاحنة في مواجهة الاعتداء الصدامي الغاشم.
وخلال الحرب في مواجهة النظام الصدامي في العراق أصيب بشظايا قذيفة في قرية "دهلاوية" بمحافظة "خوزستان"، نقل على أثرها إلى مستشفى "الأهواز"، لكنه ما لبث أن فارق الحياة.
المتتبع لحياة الشهيد شمران يلحظ صفات اتسم بها ولازمته كقائد يحس مع عناصره والمجاهدين معه، بظروفهم وتعبهم وألمهم وحاجاتهم، فلا يفرق نفسه عنهم، بل يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وينصهر معهم في وحدة تتجلى بذلك الرابط العجيب الذي يوصل بينه وبينهم، وعندها تصبح المشاركة في صناعة المجتمع مبنية على أسس ثابتة قوية ومتينة، بحيث يشعر الجميع أنهم في مركب واحد، وأن القائد لا يعيش في برجه العاجي إنما هو معهم في فقرهم والمهم وفي فرحهم النادر الحزين.
والكفاح من أجل الحق والدفاع عنه في مواجهة الطواغيت في قاموس الشهيد شمران لم يحدّه زمان أو مكان بل فرضته الحاجة إلى أمثاله في غير مكان وزمان، فتخلى طوعاً وبإرادة واعية صادقة همّها التقرب إلى الخالق بخدمة عباده، عن شهوة الشهرة وبريق الأضواء وعن الخيارات الواسعة المفعمة بالترغيب والاغراءات ليكون قريباً من أشجار الزيتون وصخور ساحات الوغى وميادين الجهاد بالعرق والدم بالفكر والقلم بالسيف والبندقية بالصبر والاناة.
له صورٌ تكاد تقارب القداسة، وهو الشبل الكشفي، المعلم، المربي، المخترع، الشاعر، الناسك، الفيلسوف، رجل الدين، الثائر، القائد، هو كل هذه الأمور مجتمعة، لهذا حاز على ثقة الإمام القائد السيد موسى الصدر (أعاده المولى) فكان ظله.
قبل هذا، كانت الانتفاضات في إيران على الظلم والاعتقال قد شكلت لحظة انعطافة نوعية في مسيرة الشهيد شمران الجهادية، فأوان البندقية قد أزف، وكان لبنان هو المحطة التي تهفو إليها قلوب الثوار من كل مكان، وكانت تمنح المعنى في خط النضال والجهاد في الصراع بوجه المشروع الأمريكي والصهيوني، وهنا في لبنان، كان المشروع الاستنهاضي للمحرومين وقاعدته العريضة يشق طريقه بقيادة الإمام القائد السيد موسى الصدر، وكانت عين الإمام الصدر، كما الشهيد شمران، على القدس وفلسطين، ووجد كل منهما نفسه في الآخر، وارتبط اسم الشهيد شمران في فكر ووجدان وتاريخ الحركيين من أبناء أمل الذين يحفظون له جهاده ونضاله معهم على تلال عاملة في جنوب لبنان: شلعبون وصف الهوا والطيبة، وكثير من ساحات البطولة والعز التي غيرت بوصلة لبنان نحو العصر المقاوم الذي أراد له الإمام القائد السيد موسى الصدر أن يكون مشتعلاً دائماً وليس موسمياً أو آنياً، بل مبنياً على أساس تكوين مجتمع المقاومة الذي يتحضر في كل الأوقات ليكون مستعداً دائماً لمواجهة الأخطار والتحديات خصوصاً في وطن مثل لبنان هو على خط التماس الجغرافي مع فلسطين المحتلة التي يربض على تحررها العدو الصهيوني، الذي يخاف من لبنان قدرة على المواجهة والصمود والانتصار أسست لها تلك الأيام التي عمل فيها الشهيد شمران بتوجيهات الإمام الصدر على زرع ثقافة المقاومة بالأسنان والأظافر والسلاح مهما كان وضيعاً، فأثمرت نصراً وتحريراً وعزة وكرامة.
وجد الشهيد شمران في جغرافية لبنان أقرب نقطة متاحة من فلسطين المحتلة، وحيث أيضاً لا مسافة تفصله عن المستضعفين والمحرومين، فكانت مدينة (صور) مقراً أولاً له حيث أخذ على عاتقه إدارة المدرسة المهنية في مؤسسة جبل عامل - البرج الشمالي، التي خرّجت مقاومين أبطالاً كانوا من الطليعة المؤمنة التي باعت جماجمها لله وواجهت العدو الاسرائيلي مؤمنة بحقها وملتزمة بخط ونهج الإمام السيد موسى الصدر، وهناك أتيح له بناء الكوادر وتأهيلهم علمياً وثقافياً، وعمل إلى جانب القائد المغيب الإمام السيد موسى الصدر على تشكيل حركة حملت اسم ذلك المعنى الذي ملك عليه تفكيره واستقر في حلمه "حركة المحرومين"، التي انبثقت منها لاحقاً "حركة أمل"- أفواج المقاومة اللبنانية - وكان الهاجس دائماً عند الشهيد شمران تحقيق الهدف المقدس وهو تحرير فلسطين.
أکتب تعلیقک.