الجبهة الثقافية الخط الدفاعي الهام الغـــزو الــثقــافي وحــافة الهــاوية
تواجه الأمة الإسلامية ـ اليوم ـ هجوماً ثقافياً إعلامياً شاملاً يستهدف التشكيك بالهوية الحضارية الثقافية للأمة ويركز على تشويه المضمون التحرري والجهادي لكل التحركات المناهضة للإستكبار والصهيونية والتبعية.
هذا الهجوم ليس جديداً بالمعنى الزماني والتاريخي للكلمة. ولكنه الأعمّ والأشمل والأخطر على الإطلاق. فلقد تعرّضت الأمة خلال تاريخها الطويل إلى هجمات وغزوات كثيرة مازالت بصماتها وآثارها في جسم الأمة حتى الآن. ولكنها كانت تستهدفها في مواقع محددة وأزمنة مختلفة. مما يتيح لها التراجع ثم التقدم ويترك مساحة كافية للمناورة.
أما اليوم فإن هذا الهجوم يطال الأمة دفعة واحدة في كل مواقعها. وأخطر ما فيه أنه يستهدف ثقافة الأمة وخزانها الفكري والحضاري لتدمير ما يحويه من قيم الإيمان والحق والعدالة والإنسانية وإعادة تعبئته وشحنه بقيم مادية فاسدة ومشوهة تقطع أوصال الإنتماء للأمة وتحولها إلى شراذم ذات شخصية تابعة متلقية. إنه غزو منظّم ومبرمج يحاول إصابة قلب الأمة النابض وإماتته بعدما انكشف هذا القلب عقب سقوط الحصون السياسية والعسكرية والإقتصادية. إنه غزو العقول وإحباط النفوس وتكييف نمط حياتنا وسلوكنا وتغيير قيمنا ومبادئنا بما يلائم هيمنة الإستكبار فنقر له بالسلطان ونتخلى عن مقاومة الظلم والعدوان.
إنها حرب على كل الجبهات دفعة واحدة. ولأول مرة في تاريخ الصراعات تتقدم الجبهة الإعلامية والثقافية على غيرها. وما ذلك إلاّ لأن الإستعمار الجديد لايهدف فقط إلى السيطرة على مقدرات الشعوب وحكمها بل أيضاً يريد النفاذ إلى ثقافتها لتحقيق تبعية فكرية وروحية ووجدانية بعد نجاحه في تحقيق التبعيات السياسية والإقتصادية ولأن جبهة الثقافة ـ خصوصاً عند الأمة الإسلامية ـ تشكل أصلب الجبهات وأمنها فإن المواجهة تتركز عندها.
ولا يمكن صد هذا الهجوم ومنعه من الإنتشار ودخول المنازل والمجتمعات والحياة اليومية في أي مكان في العالم. فحيث توجد كهرباء أو بطاريات وأجهزة راديو وتلفزيون وكمبيوتر تكون مستعمرات ومنابر له تعمل على بث قيم مادية وإستهلاكية سلبية وإباحية وعنيفة وعنصرية تتعارض مع القيم الروحية والأخلاقية والوطنية والإنسانية والدينية التي تشكل تراث الأمم والشعوب العريقة. إنه نوع من الغزو لم تعتد عليه الشعوب ولم تحضّ نفسها مسبقاً لصده. ولذلك لم تشعر إلاّ وهو داخل المجتمع بل داخل البيوت يتحرك ويهاجم ويخرّب، ويحدث ثقوباً واسعة في جدران المناعة الثقافية ويكاد يقترب من صدعها تمهيداً لتداعيها.
الجبهة الثقافية هي خط الدفاع الأخير للأمة وبعده السقوط. ولايمكن لأمة عريقة تحتضن رسالة اﷲ للزمن الأخير أن تتهاون في هذه المواجهة. وإن تكن التجارب السابقة لم تنجح في توحيد الجهود على الجبهات الأخرى لاختلاف المصالح وتصادم وجهات النظر فإن الأمر هنا مختلف. إنه دفاع عن البيوت والأبناء عن الدين والهوية. والأمة تملك مخزوناً كبيراً من القيم والطاقات قادرة إن جمعت ووحدت على الصمود وإلحاق هزيمة قاسية بالمشاريع التي تستهدفها. ومهيأة لأن تشكل رأس الحربة الدولية للتحرر من الهيمنة الإستكبارية.
وهكذا فقد أطلق نائب الرئيس الأميركي آل غور سنة 1993 فكرة شبكات المعلومات التي يجب أن تغطي الكوكب كله وتسوّق عبر العالم الرسالة الأميركية المتعددة الثقافات والمتعددة الجذور في مجال صناعة السينما والإتصالات عبر
الأقمار. واجتاحت شبكة السي أن أن العالم عبر أكثر من ثلاثين مكتبا خارج الولايات المتحدة لتسوّق المنهج الأميركي وبدأت عملية الإستعباد الثقافي الأميركي للأمم عبر موسيقى الروك والمسلسلات التلفزيونية وغيرها من الوسائل الأخرى.
وقد وصل الأمر بمحاولات الإختراق السافرة إلى إقدام السفارة الصهيونية في واشنطن على إقامة حفلة تكريم للأديب اللبناني الراحل جبران خليل جبران ودعت إليها جميع السفراء العرب وحشد من المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين. وكان الرئيس الأميركي بوش قد مهّد لذلك بإطلاق إسم هذا الأديب على إحدى الحدائق الكبرى في واشنطن. وكانت الخطة تقضي بأن تقام حفلات تكريم متتالية في السفارات العربية بعد ذلك. ولكن موقف الحكومة اللبنانية الرافض، واعتراض السفير اللبناني في واشنطن والمقاطعة العربية أفشل الخطة. ولا عجب فإن الكيان الصهيوني هو أحد الأقطاب الأساسيين في عملية الغزو الثقافي للأمة وهو يقوم بمحاولات وجهود حثيثة في هذا المجال وقد خصص 40% من ميزانيته للمجال الثقافي والبحث العلمي كما قال رئيس الحكومة الأسبق ـ شمعون بيريز ـ وإذا حل السلام فيجب مضاعفة هذه النسبة.
يروم الغزو الثقافي ان يسلخ الجيل الجديد عن معتقداته بضروبها المختلفة. فهو من ناحية يهزّ قناعة هذا الجيل بمعتقده الديني، ويقطعه من ناحية ثانية عن الاعتقاد بالأصول الثورية، ويهدف من ناحية ثالثة إلى قلعه عن هذا الطراز من الفكر الفعّال الذي دفع الاستكبار والقدرات الكبرى لإستشعار حالة الخوف والخطر.
في عملية الغزو الثقافي يقوم العدو بدفع ذلك الجزء من ثقافته الذي يرغب هو بدفعه، إلى البلد الذي يروم غزوه، ويغذي الأمة التي يستهدفها بما يريد.. ومعلوم ماذا يريد العدو وما الذي يرغب فيه.
علينا أن نصدّق حقاً، ونقتنع بأننا عرضة اليوم لأمواج متدافعة من ضروب الغزو الثقافي، اننا اليوم عرضة من كل جهة لسهام خصومنا من الأعداء الأصليين في العالم، ولعدونا الثقافي الذي يحمل علينا من كل صوب. والخصومة الثقافية ضدّنا تستهدفنا على أرضية ثقافتنا العامة، وعلى صعيد ضرب ذهنية الشعب والنيل من جهده الثقافي، كما انها تستهدفنا على صعيد النشاط التعليمي وجهدنا في تربية القوى الإنسانية، وذلك لكي يحولوا دون بلوغنا مقاصدنا.
انبثقت بديلاً عن الحرب، حالة من الصراع الفكري والحرب الثقافية السياسية.. فكل إنسان له دراية بالاخبار واحاطة ذهنية بما يجري في العالم، يستطيع ان يلمس من خلال نظرة يلقيها على الساحة، ان العدو بصدد أن ينفذ عن طريق الوسائل الثقافية، ويمارس أكثر ضغوطاته بهذا الأسلوب.. وهذا الأمر يبدو من المسلّمات.
انّهم ليسوا قلّة أولئك المأجورون من حملة الأقلام والمتعلمين الذين باعوا دينهم وتجاوزوا وجدانهم وضميرهم، وجلسوا على مائدة الفساد الاستكباري، وراحوا يحققون بأقلامهم مآرب الاستكبار، وبعض جماعاتهم لا تزال تمارس نشاطها.
يبادر الشعب في التبادل الثقافي إلى النقاط الايجابية، وما يقود إلى تكامل ثقافته وإثرائها فيستعمله، تماماً كالإنسان الذي يصاب بالضعف في بدنه، فينكب على تناول الغذاء الجيد أو الدواء المناسب، لكي يتعافى وتعود إليه السلامة مجدداً.
هناك فرق بين الغزو الثقافي والتفاعل الثقافي، في الغزو الثقافي، فإنّ الأمة المستهدفة بالغزو تغذى بأمور سلبية وثقافة ضارّة. على سبيل المثال، لم يصطحب الأوربيون معهم قيماً من قبيل روحية احترام قيمة الوقت.. الشجاعة والاقدام.. تحمل الأخطار في مواجهة الأمور.. ولكن في التفاعل الثقافي، لهدف من التبادل الثقافي هو اثراء الثقافة الوطنية وسوقها نحو التكامل. وفي مسار عملية التبادل، تأخذ الأمة ما تراه لائقاً جيداً من ثقافة الآخرين، وما هو مورد علاقة بالنسبة إليها. أما الغزو الثقافي فهو يهدف إلى استئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها.
ولذلك ينعت كل من يقاوم هذه المنهجية بالإرهاب والتشدد وتتهم كل دولة ترفض الإنصياع بأنها تخرج على النظام الدولي وتهدد الأمن العام.
وهذا الذي نراه اليوم في عالمنا كثيراً وعلينا مواجهته بالوسائل والقدرات المتنامية للشعوب الحرة المقاومة، وسنذكر لكم في الأيام القادمة أنموذجا من هذا الغزو الثقافي الخفي في بلداننا.
أکتب تعلیقک.