خُسرو وشيرينخواني... طقسٌ للاحتفاء بالحبّ والثقافة
فنّ السرد والحكاية... مرآةُ الوجدان الإنساني والثقافة الفارسية
يُعَدُّ السرد القصصيّ من أرقى المهارات اللغوية التي امتلكها الإنسان لنقل الأفكار والمفاهيم في قالبٍ شيّقٍ وممتع. فكلّ ثقافةٍ تحمل في أعماقها مجموعةً من القصص التي تُجسِّد قيمها وتاريخها، وتبقى هذه الحكايات حيّةً في الذاكرة الشعبية لما تحمله من جمالٍ فنيٍّ ورسائل إنسانيةٍ وتعليميةٍ عميقة.
في اللغة الفارسية، تميّز الأدب منذ قرونٍ طويلةٍ بثرائه في الحكايات المنظومة والمنثورة، التي تمزج بين الخيال والحكمة، وبين الملحمة والعاطفة. هذا الغنى جعل من التراث الفارسي أحد أكثر الكنوز الأدبية ندرةً في العالم، بما يحمله من أعمالٍ غنائيةٍ ذات مضامين أسطوريةٍ وبطوليةٍ وإنسانيةٍ.
وكما يقف الشاهنامة، تحفةُ الحكيم أبي القاسم الفردوسي، على قمة الأدب الملحمي الفارسي، فإنّ منظومة خسرو وشيرين تتربّع على عرش الأدب الغنائي والعاطفي. كلاهما لا يُمثّلان مجرد نصّين شعريين، بل هما وجهان للهوية الثقافية الإيرانية، إذ امتزجت قصصهما بحياة الناس وعاداتهم واحتفالاتهم.
ومن رحم هذا الارتباط الوثيق بين الأدب والشعب، وُلدت طقوسٌ وفنونٌ شفويةٌ عديدة، من أبرزها آیین خسرو و شیرینخواني، وهو فنٌّ يجمع بين الشعر والغناء والرواية، ويحافظ على حضور العشق والحكمة في الذاكرة الثقافية الإيرانية حتى يومنا هذا.
بهذا المعنى، لا تكون الحكاية مجرد وسيلةٍ للترفيه، بل لغةً للذاكرة، وأسلوباً للخلود، وجسراً يصل الماضي بالحاضر عبر الكلمة والنغمة والعاطفة.

تصویری منسوب به نظامی گنجوی بر روی یک قالیچه که در موزهای در شهر گنجه (جمهوری آذربایجان) نگهداری میشود
المنظومة الشعرية "خُسرو وشيرين"... رواية للعاطفة والثقافة
تُعَدُّ منظومة خُسرو وشيرين – المعروفة أيضاً باسم "شيرين وفرهاد" – من أروع ما نظم الشاعر الفارسي العظيم نظامي الكنجوي، الذي يُعَدّ أحد أعمدة الأدب الكلاسيكي الفارسي. يروي نظامي في هذه المنظومة قصةً كانت متداولةً في الوجدان الشعبي الإيراني منذ قرون، وقد أشار إليها الفردوسي أيضاً في "الشاهنامة"، غير أنّ نظامي قد أعاد صياغتها بروحٍ مغايرة، إذ نظر إليها من زاويةٍ عاطفية وإنسانية، في حين تناولها الفردوسي بمنظورٍ بطوليٍّ وملحميّ.
خُسرو في هذه الرواية هو خُسرو برويز، إمبراطور الدولة الساسانية (590–628م)، الذي يقع في حبّ شيرين، المرأة النبيلة ذات الجمال والحكمة. وبينما يصوّرها الفردوسي في طبقٍةٍ متواضعة من المجتمع، يجعلها نظامي أميرةً أرمنية الأصل، رمزاً للنقاء والذكاء والاستقلال.
تبدأ المنظومة بتمجيد الحبّ، لا بوصفه شغفاً جسدياً، بل كقوةٍ تسمو بالإنسان وترتقي بروحه نحو الكمال. ومن خلال الحوار بين خسرو وشيرين، يُدخل نظامي القارئ في عوالم من الثقافة والموسيقى والتاريخ الإيراني القديم، فيحوّل القصة إلى موسوعةٍ أدبيةٍ تحمل روح الحضارة الفارسية.
تتجسّد شخصية شيرين في هذا العمل بوصفها امرأة شجاعة ونقيّة، واعية بزمنها، لا تخشى نقد الظلم ولا تتردد في إرشاد الملوك إلى طريق العدالة. ومن خلال كلماتها، يُعبّر نظامي بذكاءٍ عن نقده الاجتماعي والسياسي لزمانه، متخفّفاً من القيود عبر لسان امرأةٍ حُرّة تمثل الضمير الحي للمجتمع.
إنّ منظومة خُسرو وشيرين ليست مجرد قصة حب، بل هي مرآةٌ للوجدان الإيراني، ومزيجٌ من الفلسفة والعاطفة، ومن الشعر والموسيقى، ومن التاريخ والخيال. ومن هنا، تبقى هذه المنظومة حتى اليوم رمزاً للعشق الطاهر والثقافة الرفيعة في الأدب الفارسي.

یک هنرمند در حال اجرای آیین خسرو و شیرینخوانی (تصویر توسط هوش مصنوعی ساخته شده است)
إنّ طقس خُسرو وشيرينخواني في إليكودَرز يُعدّ من أبرز المظاهر الثقافيّة والفنيّة التي تجمع بين الشعر والموسيقى والرواية الشعبية. تقوم فكرة هذا الطقس على رواية منظومة خُسرو وشيرين بأسلوبٍ قصصيٍّ وإنشاديٍّ يجعل الاستماع إليها تجربةً عاطفيةً آسرة، إذ يميل الإنسان بطبعه إلى سماع القصص والتماهي مع أبطالها وشخصياتها.
كان هذا اللون من الإنشاد يُؤدّى في مختلف مناطق إيران مصحوباً بالألحان والأداء التمثيلي، وغالباً ما كان يُقدَّم في المناسبات الاجتماعية والمجالس الأدبية، حيث يجتمع الناس ليستمعوا إلى رواةٍ ينشدون أبيات منظومة خُسرو وشيرين جنباً إلى جنب مع مثنوي معنوي لجلالالدين الرومي والشاهنامة للفردوسي. ومع مرور الزمن، أصبح هذا التقليد في منطقة إليكودَرز (التابعة لمحافظة لرستان) ذا طابعٍ طقسيٍّ مميّز، حتى صار يُعرف اليوم باسم آیین خسرو و شیرینخوانی.
تتميّز هذه المنطقة ذات الطبيعة الجبلية الباردة والمعتدلة، بتشبّث أهلها بالتراث الشفهي، حيث كان كثيرٌ من سكانها يحفظون أبياتاً من المثنوي، الشاهنامة، ومنظومة خسرو وشيرين عن ظهر قلب، بل وكان بينهم من لا يعرف القراءة والكتابة، لكنّه يمتلك ذاكرةً قوية وصوتاً عذباً يجعل الإنشاد متعةً للسامعين.
هذا الفنّ، الذي يجمع بين الرواية الملحمية والغناء التقليدي، ليس مجرّد ترفٍ فنيٍّ بل هو حافظٌ للذاكرة الثقافية والروحية للشعب الإيراني، حيث تختلط فيه العاطفة العميقة بالحكمة، والموسيقى بالكلمة، والموروث بالهوية.

صحنهای از داستان خسرو و شیرین/ اثر استاد حسین بهزاد در سبک مینیاتور
ما زال فنّ خُسرو وشيرينخواني (أي: إنشاد قصّة خُسرو وشيرين) قائماً حتى اليوم في منطقة إليكودَرز، ولا سيّما في القرى التابعة لها. في هذا الطقس الفني الشعبي، يُنشد الرواة أبيات المنظومة الشعرية باستخدام المقامات الغنائية الخاصة بالموسيقى اللُّريّة والبختياريّة، في حين يجلس الحاضرون للإصغاء بتركيزٍ ومتعةٍ إلى الأداء المليء بالعاطفة والإحساس.
هذا التقليد الفني له جذورٌ عميقة في الأدب الفارسي، إذ إنّ قصّة خُسرو وشيرين تعود في أصلها إلى الشاهنامة، ثمّ صاغها الشاعر الكبير نظامي الكنجوي بأسلوبٍ أكثر عاطفيةً وشاعرية. ومن هنا، فإنّ فنّ خسرو وشيرينخواني يُعدّ امتداداً مباشراً لفنّ الشاهنامةخواني (إنشاد الشاهنامة)، حتى إنّ كثيراً من المنشدين الذين يؤدّون قصّة خسرو وشيرين يمتلكون براعةً كبيرة في تلاوة أبيات الشاهنامة أيضاً.
بهذا المعنى، يجمع هذا الفنّ بين الموسيقى التراثية والرواية الشعرية والهوية الثقافية، ويحافظ على حضور الملحمة الفارسية في الذاكرة الشعبية، حيث لا يزال صدى صوت الرواة في جبال لُرستان وبختياري يُعيد إلى الأذهان أجواء المجالس القديمة التي كانت الكلمة فيها موسيقى، والموسيقى شعراً، والشعر حياةً نابضة بالحبّ والبطولة.
| الإسم | خُسرو وشيرينخواني... طقسٌ للاحتفاء بالحبّ والثقافة |
| الدولة | إیران |
| ولایة | لورستان |
| مدینة | ألیجودرز |
| نوع | فنی |
| تسجیل | لا یوجد تسجیل |








Choose blindless
العمى الأحمر العمی الأخضر العمی الأبیض اللون الأحمر من الصعب رؤیته اللون الأخضر من الصعب رؤیته اللون الأزرق من الصعب رؤیته أحادی اللون أحادی اللون خاصتغییر حجم الخط:
تغییر المسافة بین الکلمات:
تغییر ارتفاع الخط:
تغییر نوع الماوس: