المقهى الإيراني، مؤسسة اجتماعية ذات تقاليد خاصة

بعد أن بدأ القهوة تنتشر تدريجيًا في أوروبا خلال القرن الثالث عشر الميلادي، ظهرت أماكن لتقديم القهوة، حيث كان الأفراد لا يشربون القهوة فحسب، بل يمارسون أيضًا اللقاءات الاجتماعية والمحادثات. ومع مرور الوقت، أصبحت المقاهي أكثر انتشارًا، وظهرت نماذج لها في شرق أوروبا، وشمال أفريقيا، وغرب آسيا. ومع دخول المقاهي إلى إيران وتزايد إقبال الناس عليها، تشكّلت فيها تقاليد استمر بعضها حتى اليوم ويمكن ملاحظتها إلى حد ما في المقاهي التقليدية الحالية.

تاريخ المقهى الإيراني
يُنسب تأسيس المقهى في إيران إلى فترة الدولة الصفوية (القرن السادس عشر الميلادي)، حين كانت إيران تتمتع بحكم قوي وكان هناك تواصل كبير مع أوروبا. ويقال إنه في عهد الشاه تهماسب الصفوي (حكم من 1514 إلى 1576 ميلادي) تم افتتاح أول مقهى إيراني في مدينة قزوين، عاصمة إيران في ذلك الوقت. ومن المثير للاهتمام أن المقاهي الإيرانية في عصر الصفويين تُعتبر أصل نشوء المقهى في الدولة العثمانية (تركيا الحالية).
انتشرت المقاهي في إيران بحيث أصبح لكل حي في معظم المدن مقهى واحد أو أكثر. ومن هذا المنطلق، يمكن وصف عادة «الذهاب إلى المقهى» كأحد الظواهر الاجتماعية في المجتمع الإيراني عبر عدة قرون، حيث كان الرجال يقضون ساعة من وقتهم في التواصل الاجتماعي بعيدًا عن بيئة العمل والمنزل. ومع ذلك، كانت بعض المقاهي تقدم القمار واللهو، فتجذب زبائن معينين وتؤدي أحيانًا إلى جرائم وشجارات جماعية. وقد انتشرت هذه المقاهي بشكل خاص في عهد الشاه الثاني (منتصف القرن العشرين)، لكنها اختفت بعد الثورة الإسلامية، رغم أنها تركت صورة سلبية عن المقهى في ذهن المجتمع.

المقهى الإيراني: الخصائص والتقاليد
إذا أردنا مقارنة المقهى الإيراني بما هو أقرب له في الغرب، فيمكن الإشارة إلى «الكافيه» أو «الكافي شوب». ومع ذلك، يختلف جو المقهى الإيراني كليًا عن المقاهي الحديثة، لكنهما متشابهان من حيث تقديم المشروبات والوجبات الخفيفة، وإتاحة مكان للراحة والاجتماع.
في المقاهي الإيرانية، إلى جانب القهوة، تُقدّم الشاي ومختلف الأعشاب المنقوعة أحيانًا، بالإضافة إلى وجبات خفيفة أو أطعمة بسيطة مثل الأومليت والبيض المقلي. وقد يكون الشاي أكثر شيوعًا من باقي المشروبات. كما يوجد الشيشة (القليان) في معظم المقاهي الإيرانية، وهي أداة تقليدية لتدخين التبغ مصنوعة من عدة أجزاء رأسية، ويُوصل لها أنبوب واحد أو أكثر، ويوضع التبغ في حجرة خاصة ويغطى بالفحم المشتعل، بينما يُملأ قاعها بالماء لتبريد الدخان قبل استنشاقه عبر الأنبوب. وتتوفر الشيشة بنكهات مختلفة.
يُعرف المقهى الإيراني بأنه مكان للرجال فقط، ولا تتواجد النساء فيه. وكان معظم أصحاب المقاهي في الماضي ملتزمين بإقامة مراسم دينية، خصوصًا في عزاء شهر محرم. وما زالت بعض المقاهي تُغلق في محرم لتخصيص المكان لإقامة مجالس العزاء. كما تبدأ المقاهي نشاطها في شهر رمضان بعد الإفطار وتمتد حتى السحور.

الألعاب في المقهى
تُمارس في المقاهي ألعاب مختلفة، غالبًا من نوع الألعاب الطاولة. وتُعد لعبة الطاولة (نرد) من أكثر الألعاب شعبية، وقد تُلعب ألعاب جماعية مثل «تورنا»، و«غول يا بوتش» و«مافيا».

• «تورنا» لعبة إيرانية قديمة يحدد فيها كل لاعب دوره وفق القرعة باستخدام أداة شبيهة بالنرد، ثم يصدر أو ينفذ حكمًا على لاعبين آخرين وفق دوره.

• «غول يا بوتش» لعبة بسيطة جدًا لكنها مليئة بالإثارة، حيث يقسم اللاعبون إلى فريقين: يخفي أحدهما «زهرة» (شيء صغير)، ويحاول الفريق الآخر العثور عليها باستخدام الحيل.

• لعبة «مافيا» غربية الأصل، حيث توزع الأدوار بالقرعة، ويجب على فريق «المواطنين» اكتشاف فريق «المافيا» الذي يحاول التلاعب بالمدينة. وفي كل جولة يُستبعد لاعب من المافيا وآخر بالتصويت.

الفنون في المقهى
في المقاهي القديمة، انتشرت فنون لتسلية الحاضرين، أبرزها «النقالي» الذي يروي قصصًا بطولية غالبًا من شاهنامه الفردوسي، حيث يقوم النقال بقراءة الأبيات مع حركات متناسقة مع مضمون القصة، لتسلية الجمهور. ونظرًا لأن معظم زبائن المقاهي سابقًا من الطبقات الشعبية وذوي معرفة محدودة، كان النقالي وسيلة مهمة لنقل الأدب الفارسي والتراث الشفهي.
اليوم، نادراً ما تُقام عروض النقالي، لكنها ما زالت تُعتبر فناً عرضيًا إيرانيًا. كما تُقام الموسيقى الحية في بعض المقاهي.
من الفنون الأخرى التي ظهرت في المقاهي، وارتبطت لاحقًا بالنقاشات التشكيلية الإيرانية، فن «الرسم المقهوي»، حيث تُرسم وجوه الأبطال الأسطوريين أو الشخصيات الدينية، وهو مزيج من التصوير التقليدي والمعتقدات الشعبية والأدب الشفهي.