ابن مقله؛ الخطاط المبتكر

أبو علي محمد بن حسين بن مقلة البيضاوي الشيرازي، المعروف بابن مقلة، هو خطاط إيراني مشهور ومبتكر وُلِد في بغداد سنة 272 هـ. ق. كان والده أبو عباس من أهالي بيضاء فارس، كاتب قرآن وفقيه وخطاط بارز في الخط الكوفي. لذا شجع أبنائه على طلب العلوم والفنون وبذل جهد كبير في تهيئتهم، وفي هذا الإطار، تفوق ابن مقلة بفضل موهبته الفطرية على إخوته.

تعلّم على يد علماء مثل عباس ثعلب وأبو بكر ابن دريد، وتخصص تدريجيًا في العلوم الأدبية. أما أصوله في فن الخط فقد اكتملت على يد أحول سِگزي، الذي أطلق عليه لأول مرة لقب «إمام الخطاطين».

بعد إتمامه لمراحل العلم العليا في شبابه، دخل ابن مقلة عالم السياسة في عصره، وعُيّن في سن السادسة عشرة كاتبًا في جهاز ابن جراح براتب ستة دنانير شهريًا، لكنه انفصل عنه بعد ثمانية أشهر. ومن المحتمل أن جمع الضرائب وإدارة بعض ولايات فارس كانت أولى مناصبه الإدارية.

ظل ابن مقلة على تواصل دائم مع العلماء والخطاطين في عصره، حيث كان كثير من الخطاطين يأتون إليه للتعلم. وفي سنة 296 هـ. ق، دُعي ابن مقلة إلى بغداد على يد الخليفة العباسي المقتدر بالله نظرًا لدهائه وحنكته السياسية ومعرفته بأوضاع إيران. وكانت الأوضاع المضطربة في بغداد والحاجة إلى التعرف على حركات وثورات الإيرانيين سببًا إضافيًا لاستدعائه، خاصة وأنه كان وزيرًا شيعيًا من أصول إيرانية يسعى لإصلاح النظام العباسي الظالم.

تزامنت حياة ابن مقلة مع خلافة ثلاثة خلفاء عباسيين: المقتدر، القاهر، والرازي بالله، وكانت فترته الوزارية من أفضل الفترات في حياة سكان بغداد. تميز ابن مقلة أيضًا بالكرم، إذ كان يوزع الجوائز والهدايا التي يتلقاها من الخلفاء على الفقراء والمحتاجين، كما كان يهب الكثير من خطوطه للمعوزين.

الإرث الباقي لابن مقلة في فن الخط

تعد خدمات ابن مقلة وإبداعه في مجال الخط من أبرز الإنجازات التي لا يمكن إنكارها. ويمكن تلخيص مكانته في التاريخ الفني الإيراني في جانبين رئيسيين:

1. استخراج وتكميل الخطوط الستة: استطاع ابن مقلة مع أخيه استخراج وتكميل الخطوط الستة: المحقق، الريحان، الثلث، النسخ، الرقاع والتوقيع، من الخط الكوفي.

2. تحسين جماليات الحروف والكلمات: أضاف بعدًا جماليًا وفنيًا للخط، ففتح آفاقًا جديدة في عالم الخط، ووضع أولى القواعد الهندسية للكتابة، مؤسسًا أول دستور مدوّن للخط من حيث الأسس النظرية والجمالية.

كما وضع ابن مقلة الخط المحقق لاستخدامه في كتابة القرآن الكريم والكتب الدينية، وابتكر خط الريحان من المحقق، وطور خط النسخ في سنة 310 هـ. ق ليكون واضحًا وسهل القراءة، وخصص خط الرقاع للرسائل الرسمية والأوامر الحكومية. إضافة إلى ذلك، وضع 12 قاعدة لجماليات الخط تشمل: التركيب، الكرسي، النسبة، الضعف، القوة، السطح، الدوران، الصعود المسموح، النزول المسموح، المبادئ، الصفاء، والهيئة.

لم يقتصر تفوقه على الخط، بل كان ملمًا بالفقه، التفسير، الأدب، الإنشاء، البلاغة، المعاجم والشعر، لكن مكانته في الخط فاقت كل مجالات علمه الأخرى، مما جعله خالداً في التاريخ.

آثار ابن مقلة

رغم شهرته، لم يبقَ من أعماله المكتوبة إلا القليل، ومن أهمها: القرآن الكريم، رسالة في علم الخط، رسالة في ميزان الخط، أصناف الكتاب، مقدمة في الخط، اختيار الأشعار وجمل الخط. كما تبقى بعض رسائله الموجهة لقادة الجيش وحكام الولايات، ورسائل إلى عبد الله البريدي وابن فرات.

كان ابن مقلة، رغم إقامته في العراق، يولي اهتمامًا بالغًا بالحكومات الإيرانية لمساعدتها في إصلاح النظام العباسي الظالم. لكن ذلك أثار غضب الخليفة المقتدر عليه، فأُودع السجن، وقطعت يده اليمنى قبل وفاته، وهو أعظم عقاب يمكن أن يُفرض على خطاط عظيم. ومع ذلك، استمر في التدريس والإبداع، مُدرّبًا العديد من الخطاطين الموهوبين، حتى أصدر الخليفة لاحقًا حكمًا بالقتل عليه. وبذلك، يُعدّ ابن مقلة شخصية بارزة في تاريخ الخط والسياسة، حيث تولى الوزارة ثلاث مرات، وعزل ثلاث مرات، وخدم ثلاثة خلفاء، وكتب ثلاثة مصاحف، ودُفن ثلاث مرات.